يتقافز الأطفال بين القبور حيث دبت بهم الحياة مجدداً، لا رهبة في صدورهم من الموت، فلا دليل للخوف في عيونهم، ضحكاتهم تعلو، ولعبة جمع الرايات مستمرة، إلى أن اكتشفوا ما كانوا يركضون إليه منذ بداية التشييع، بعد أن اكتشفوا هدفهم الأول المتمثل برؤية وجه الشهيد، وهل كان سيغمز لهم حقاً أما لا، وقد ادعى بعضهم ذلك، فيما ادعى البعض الآخر أنه لمسه وكان قلبه ينبض، وما يقوله الكبار أن الشهداء أحياء، ليست أسطورة.
على سور المقبرة تجمعوا، ووقفوا ملتصقين بجانب بعضهم البعض، وقد أداروا ظهورهم للقبور، ليخترق الصمت مجدداً صراخ ذاك الولد مستهزأً: هل نفد الرصاص؟ لم تطلق سوى رصاصتين.. هل هذا الذي معك؟
ينكزه صديقه من داخل المقبرة وقد أجبره أن يلف وجهه للقبور مجدداً، إلا أن عيونه لا ترى شيئا، سوى عيون صديقه، "معهم m16، واحد لابس جيشي وواحد لابس كحلي"، يروي لصديقه ماذا يرى من أعلى السور، الذي لا مكان له عليه، وقد ازدحم بالأطفال.
صلية أخرى من الرصاص تنطلق، تستعيد بها صديقتي الليلة 24تشرين أول2001، عندما اجتاح الاحتلال القرية في انتفاضة الأقصى، وقد حاصر مجموعة مقاومين داخل مقر الشرطة، تروي صديقتي أن أخبار مخيفة انتشرت، كان الصراخ يعلو أن الجثث تملأ الشوارع، "أين الإسعاف.. أين الإسعاف"، كان تقدير عدد الشهداء بارتفاع حتى انسحاب الاحتلال، وقد كان العدد الحقيقي خمسة شهداء، ليسوا من القرية، تذكر فقط أن أحدهم من قرية دير غسانة المجاور، وآخر من غزة.
في تلك الليلة لم يتوقف فيها إطلاق صليات الرصاص المتبادل بين المقاومين المحاصرين وجيش الاحتلال، فقد كان اشتباك عنيف شهد عليه كل أهالي بيت ريما، ومع دوي صلية أخرى قرب المقبرة، تتذكر صديقتي إطلاق الأباتشي لصليات الرصاص على المقاومين المحاصرين، وتستعيد مشهد الدبابات والجرافات العسكرية التي دخلت القرية، وتمركزت بالقرب من هذا المكان.
كانت ليلة لا تنساها بيت ريما، يهدف منها الاحتلال الوصول إلى المقاوم باسل الأسمر، أحد منفذي عملية اغتيال الوزير الصهيوني رحبعام زئيفي، إضافة لسعيه الوصول لمقاومين آخرين من القرية، وقد فجر آنذاك ثلاثة منازل انتقاماً من الضربات التي ووجهها أبناء القرية له خلال انتفاضة الأقصى.
ولم يتوقف أهالي القرية آنذاك عن تذكر قصة منع التجول الكبير الذي فرضه جيش الاستعمار البريطاني، والذي انتهى بتحميله الأسلحة التي جمعها من بيوت القرية في شاحنة امتلأت تماما.
كما لم يغب عن أذهان أهالي بيت ريما حينها، وحتى الآن، قصة المقاتلين محمد ياسين الريماوي، ومحمد محمود الريماوي – الذين خاضا مع الثور في أواخر شهر آب 1936 معركة "رأس العين" على مدار ثلاثة أيام متتالية تمكنوا خلالها من تدمير معامل حجر صهيونية أقيمت في المكان، وخلال عودة المحمدان بأسلحتهم إلى بيت ريما، وقعا في كمين لجيش الاستعمار البريطاني في واد قرب من قرية اللبن الغربية، حيث تم اغتيالهما.
الصخرة العظيمة، معنى كلمة "ريما" من "ريماتا" السريانية (صفحة 289، كتاب بلادنا فلسطين، مصطفى الصباغ)، كانت الصخرة الصلبة التي لا تتحطم، وما زالت. على عتابتها يطارد الاحتلال أبنائها، ويتكرر المشهد مرة أخرى، يحتجز جيش الاحتلال أبناء القرية فور تأكده من هوياتهم على حاجز حلميش القريب، حيث سيقفون منتظرين الضابط "ذياب" ليعيد لهم ذات "الأسطوانة" المملة من تهديد وتوعد بالقتل، "سأقتلك كما قتلت محمد.. لا لا سأطلق النار على قدميك الاثنتين وأتركك تنزف وتتألم". يضحك الشاب ويهز رأسه كما يفعل باقي الشبان، ويعودون لحراسة القرية، التي تشهد أعنيف المواجهات الليلة خلال تصدي شبانها للاقتحامات والمداهمات، التي كان يشاركهم فيها محمد الريماوي، والذي عُرف بمهندس العبوات والزجاجات الحارقة، قبل أن تودعه بيت ريما شهيداً.
صلية رصاص أخرى تطلق، والخطابات المملة ما زالت مستمرة، تلقيها شخصيات من مؤسسات السلطة، لا ترثي الشهيد كما يستحق، ولا تمجد مقاومة بيت ريما كما يجب، ولا تدعو للثأر، كلمات فارغة من مضمون الكفاح والثورة، لم تعلق كلماتها بأذهان من كانوا، لا أحد يذكر ما جاء فيها، فلا أحد استمع لها، والكل ابتعد ونفر، فيما لم تتوقف هتافات الشباب المطالبة بالثأر والانتقام، "يا شهيد لا تهتم.. احنا شرابين الدم"، "يا شهيد ارتاح ارتاح.. واحنا نكمل الكفاح".
في مقبرة بيت ريما الواسعة حيث ما زلنا ننتظر أن تغادر الجموع، لنمر على قبر الشهيد الجديد، ونلقي عليه سلاما - قد يكون الأخير - قبل أن نغادر المكان، ما زال الأطفال يركضون بين القبور، يسابقون بعضهم، أحدهم يجمع الرايات، والجزء الأخر يجمع بقايا الرصاص الذي دوى في التشييع، أما الجزء الثالث، أطفال تلثموا بالكوفية والأعلام، لا أسمع ماذا كانوا يتحدثون بين بعضهم، ولكن أرجح أنهم يخططون للتوجه للمواجهات التي ستندلع على مدخل القرية.
وفي نهاية التشييع، يبرز جزء رابع من الأطفال، سيفخرون بعد قليل أنهم كشفوا شخصاً غريباً دار بينهم طارحاً الأسئلة: من ذلك الشاب؟ لمن هذا البيت؟ من كان يهتف؟.. الخ.
الآلاف كانوا في المكان، الشارع كان ممتلئ منذ المسجد حتى المقبرة، كل من قدم كان يدور في ذهنه الخوف ألا تقام للشهيد جنازة مهيبة كما تستحق دمائه، وخاصة أن الإضراب طال المواصلات العامة التي شلت تماماً.
رفع النعش عالياً، كان الكل يراه ويلمحه، وكان المشيعون ينقلونه على رؤوس أصابعهم، وسرعان ما رأينا النعش يدخل باب المقبرة، وما زلنا في منتصف الجنازة الضخمة وخلفنا الكثيرين، والكل يحاول اللحاق والوصول، عسى أن يلمح وجه الشهيد للمرة الأخيرة. مفتخرة تصف أمهات الشهداء دائما جنازات أبنائهم أنها كانت سريعة جداً، ويرددن ذات المقولة أن جنازة الشهيد تكون سريعة، لأن الملائكة تكون تدفعها وتشارك بها، وهي من تحمل نعش الشهيد.
الجموع غادرت المقبرة، كان آخرهم أطفال يحملون معدات حفر القبور، قبل أن يأتي أربعة أطفال آخرين سيجلسون في محيط قبر الشهيد، على بعد ما، ربما حتى لا يطردهم أحد.
أربعة أطفال هادئين جداً، سنتذكر أننا لم نسمعهم ينطقون بكلمة واحدة، ولم ننتبه لوجودهم إلا عندما غادرنا المكان، وتركناهم هناك!